ان موقف الاسلام ((الوسط)) يمكن ادراكه من خلال حقيقة أن الاسلام كان دائمًا موضع هجوم من الجانبين المتعارضين : الدين و العلم. فمن جانب الدين اتٌهم الاسلام بأنه اكثر لصوقا بالطبيعة و الواقع مما يجب, و انه متكيف مع الحياة الدنيا, ومن جانب العلم أنه ينطوي على عناصر دينية و غيبية. وفي الحقيقة يوجد اسلام واحد فحسب, ولكن شأنه كشأن الانسان له روح وجسم. فجوانبه المتعارضة تتوقف على اختلاف وجهات النظر. فالماديون لا يرون في الاسلام الا انه دين وغيب؛ أي اتجاه "يميني", بينما يراه المسيحيون فقط كحركة اجتماعية سياسية , أي اتجاه ((يساري)).
ان انطباع الازدواجية يكرر نفسه عند النظر الى الاسلام من الداخل, فليس هناك مؤسسة اسلامية اصيلة واحدة يمكن اعتبارها دينًا خالصًا فحسب, ولا علمًا خالصًا فحسب, خاصة عندما تشتمل على عناصر من السياسة او الاقتصاد.
لقد اكد المتصوفة دائما على الجوانب الدينية للإسلام فقط, بينما اكد العقلانيون على الجانب الآخر, وكلا الفريقين معًا لم يكن طريقه مع الاسلام ميسرًا, وذلك لحقيقة بسيطة هي ان الاسلام لا يمكن حبسه في تصنيف احد الفريقين دون الآخر.
خذ الوضوء مثلا :
يأخذه الصوفي على انه غُسل دينب ذو معان رمزية, اما العقلاني فينظر اليه بإعتباره مسألة نظافة.
وكلاهما صحيح ولكن صحة جزئية. وقصور التفسير الصوفي يكمن في انه اهمل جانب الطهارة المادية في الوضوء فأستحال الوضوء الى شكل مجرد, واستسلاما للمنطق نفسه في المسائل الاخرى, نجد ان هذا الفهم يُحجم الاسلام في صيغة دينية خالصة, وذلك من خلال استبعاد جميع المكونات المادية والعقلية و الاجتماعية منه. أما العقلانيون, فقد سلكوا الطريق المضاد فأهملوا الجانب الديني في الاسلام, وبذلك هبطوا به الى مجرد حركة سياسية, جاعلين منه نوعًا من القومية, او ما يمكن ان يسمى قومية اسلامية محرومة من جوهرها الديني الاخلاقي, فارغة ومتساوية مع جميع القوميات الأخرى في هذا المجال.
وفي هذه الحالة ان تكون مسلمًا لا يستوجب دعوة او واجبا, او التزاما اخلاقيا دينيا, او اي موقف ايجابي من الحقيقة الكونية. انما يعني فقط الإنتماء الى مجموعة من البشر مختلفة عن مجموعة اخرى. ان الاسلام لم يكن مجرد امة انما هو على الارجح دعوة الى أمة "تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر" ١. أي تؤدي رسالة اخلاقية. و اذا نحن اغفلنا المكون السياسي للإسلام و قصرناه على النزعة الصوفية الدينية, فإننا نكرس صامتين التبعية و العبودية. وفي المقابل, اذا تجاهلنا المكون الديني في الاسلام نتوقف عن ان نكون قوة اخلاقية. فهل يهم بعد ذلك اذا كانت الامبريالية تسمى بريطانية او المانية او اسلامية, ما دامت مجرد قوة قاهرة للشعوب و الاشياء ؟
من اجل مستقبل الانسان ونشاطه العملي, يُعنى الإسلام بالدعوة الى خلق انسان متسق مع روحه وبدنه, ومجتمع تحافظ قوانينه ومؤسساته الإجتماعية و الإقتصادية على هذا الاتساق ولا تنتهكه. ان الاسلام هو - وينبغي ان يظل كذلك- البحث الدائم عبر التاريخ عن حالة التوازن الجواني و البراني. هذا هو هدف الاسلام اليوم, وهو واجبه التاريخي المقدر له في المستقبل.
-
١- ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺇﻥ ﻣﻜﻨﺎﻫﻢ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ ﺃﻗﺎﻣﻮﺍ ﺍﻟﺼﻼﺓ ﻭﺁﺗﻮﺍ ﺍﻟﺰﻛﺎﺓ ﻭﺃﻣﺮﻭﺍ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻭﻑ ﻭﻧﻬﻮﺍ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻨﻜﺮ ﻭﻟﻠﻪ ﻋﺎﻗﺒﺔ ﺍﻷﻣﻮﺭ
41 الحج
ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر و اولئك هم المفلحون. ١٠٤ ال عمران
علي عزت بيجوفيتش
مقدمة الاسلام بين الشرق و الغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق