الجمعة، 5 يونيو 2015

عقدة جدي

"رغم تأكيدات الجميع ان جدي لأمي هو اللي اورثني الرغي , الا اني فاكر كويس ان جدي لأبويا هو اللي كان ما بيبطلش كلام معايا , يعيد من جديد ويفتح مواضيع   يحكي بتفاصيل مكملة للحكي القديم , افكره بتفصيلة مخالفة يوضح لي انها رواية حد اكد له زمان انها غلط و يكمل حكي التغاصيل الجديده , طب لما الروايتين من زمان و انت اتأكدت ان واحده منهم غلط بتحكي الاتنين ليه؟ "

لطالما اخبرتني امي اني ورثت "طول اللسان" وحب الكلام عن جدي , عن ابيها.
لكني اذكر جيدًا اني كنت اجالس جدي الآخر استمع لحكاياته التي لم تكن تنتهي ولم تنتهي بالفعل.
ولعل ما يدعم حججي ضد امي , مجالستي لوالدها استرجى منه الحكي فلا يحكي. ألكبر؟ كان جدي الاخر هرما. ألمرض؟ ربما , فلم اذكر ان هرمي كان مريضا. ألملل؟ لكانت كارثتي الكبرى فيما يلي من سطور.

ازور منزله و اطلب من عمي و أمه ان يساعدوني في الوصول لأي رابط بيني وبينه, رابط مادي اقصد.
في اول مرة طلبت المسبحة, من عاج الفيل صُنعت له كهدية نهاية خدمته بجيش مصر و السودان لدى مغادرته السودان. في مرة لاحقة طلبت المنبه ذو الشكل الغريب و التقويم "القلاب" الذي طالما حير الصبي الذي كنته. ولطلبي المنبه حجج فقد كنت انتظر ان يقولوا "عاطل" (وقد قالوا) فأظهرت حجتي القوية "خالي يستطيع اصلاحه وقد اصلحه من قبل" فكانت الاجابة بالحجة الواهية المتجددة " ضاع, سنبحث عنه ونبلغك".
طلبت القطعة المعدنية التي كانت تساعده على ارتداء حذاءه.
طلبت الكثير ولم احصل الا على قطع صغيرة ودقيقة من سعف النخيل كان يستخدمها "خِلة" لتنظيف اسنانه وكان يحتفظ بها في علبة كبريت. كان دقيقًا و مبتكر ومدبر بالاضافة لكونه فلاح ماهر.

طلبت فيما طلبت -وبإلحاح- "الميبر و الخيوط". و الميبر هو الابرة الكبيرة السميكة ذات الثقب الاكبر نسبيًا من مثيله في الابر الدقيقة و الذي يسع لمرور صنوف الخيوط و التي كان يستخدمها بإختلاف سمكها لإصلاح احذيته و احذية احفاده و اصلاح كل شيء ووصل كل مقطوع و ترقيع كل خرق.
كنت اغير من الاسكافي الذي كان جدي يملك مهارة اعلى منه ولم يكن يستخدمها.

كان كذلك يستخدم هذا "الميبر" في تنظيف جروح قدمي ايام كانت الجروح مقتصرة على القدم.

لي غرام خفي بعدة الخياطة الخاصة بجدي , على بساطتها (بكرتين خيط و كذا ميبر) , و لي غرام كذلك بمحل "عم سلامة" صديقه الذي لطالما كنت مرسال بينهما لاستورد منه الخيوط الذي يحتاجها جدي.
وعلى الرغم من ذلك فكلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا قال يا مريم أنى لكي هذا؟  فيجيبني انها خيوط كنت ادخرها ليوم اعجز فيه عن الذهاب الى السوق. هل كان يقصد الإشارة الى ما حدث تاليًا هل قصد :" كنت ادخرها ليوم لا اجدك فيه لأبعثك للسوق "؟

كان لديه طفلان يقاربان سني - عمان غير شقيقان- لكني كنت اعتبرهم دومًا ضيوف عنده , فلم يكن احد منهما-لا احد على الاطلاق- كان مؤمنًا به كما أؤمن. وربما لم يؤمن به احد سواي.

ومن جملة فنونه و دقته كانت لديه عقدة مميزة قادرة على ربط اي شيء بالخيط و الميبر. عقدة قادرة على رقع اي خرق .
و كانت لديه كذلك الاعيب يتمها بالخيوط , فكان يشرح لي كيف اصنع "خَيّة" وهي الحلقات بالخيوط التي في نماذجها الاكبر نستخدم لصيد الحيوانات. وكانت من عناصر تفوق عقدته.

وعقدته المميزة تلك كانت هكذا :-
١- تلضم الخيط (وله في لضم الخيط فنون)
٢- تربط طرفيه بشكل دقيق يفوق سمك الابرة وفي نفس الوقت لا يظهر سمكها.
٣- تمرره مع سم الخياط حتى اخر جزء فيه تصنعه على شكل حلقة "خية"تمرر الابرة خلالها عندما تنفذ عائدة من القماش وتشد الخية فتطبق على الخيط و هكذا.

من فنونه كذلك في لضم الخيط , انه كان يلضم الخيظ في نفس الثقب اربعة مرات لزيادة متانته, فكان دومًا ما يلفت نظري لأن الثقب مستطيل وليس مكور ومن ثم فإنه يستوعب اطراف الخيط ولفاته الاربع فوق بعضها لا متجاورة. وفي النهاية لا قلق فنحن متميزون في عقد اطراف الخيط "بشكل دقيق يفوق سمك الابرة وفي نفس الوقت لا يظهر سمكها"!

لا اعلم ممن اطلب هذه الأمنية , ولكني اتمنى ان اعيش مديدًا ومجيدًا امد من عمر جدي و امجد منه و اصح منه.
"اود أن احكي الحكاية" . اود ان اعيش مديدًا كي احكي لكل الناس. احكي ما وصلني عن جدي وما لازمته فيه , احكي اني بدونه شعرت اني صغير, صغير جدًا.

"هم مستصغرين اوي كده!"
قالها صديقي حينما اخبرته بما حدث ولكني لم اشعر بذلك, بل رويدا رويدًا تفهمت دوافعهم و ان كنت منكرها.
وكذلك ادركت اني صغير جدا بدونه , بدون حكاياته التي لم تحكى, وحكاياته التي لن يكررها. شعرت ان ذلك المصدر الضخم لما فات وذلك الهرم الذي تمتلئ غرفة بعجيب الحكايات, الهرم الذي كنت استند اليه قد اختفى فجأة.
و اقول استند اليه لأني كنت اعتبرنا ذاكرتين هو لما مضى و انا لما يحدث. اعود لها متى شئت لأنهل منها وافيض عليها بجديد ما يحدث. فصرت صغيرا جدا بدونه , اصغر مما كنت انظر لنفسي الى جواره.

في شبابي لم اكن مقتنع بالجندية , تمامًا كما كان جدي, و ان اختلفت دوافعنا.
فهو الذي اعتقد مثلا بعدم جدوى حرب فلسطين التي شارك فيها , فلم يقتنع يومًا بأي "امر" يبعده عن قريته.
لكنني استشعرت معنى عظيم في جنديتي , فهاهو يطل من جدبد : عامل لاسلكي في الجيش المصري المشارك في حرب ١٩٤٨. فكنت انظر دومًا ل" اللاسلكي" على انه ارث تركه لي جدي ف الجيش. أبدأ بالإتصال وتنتابني لحظات ثقة بأني سأسمعه يجيب من الطرف الاخر لللاسلكي في فلسطين ١٩٤٨.

ورثت عنه التسليم, فلم يكن يدري اي معنى لسفره الى السودان, ولم يدر اي معنى لتدريب لمدة ٦ اشهر على "تشريفة الملك" عندما يشهد المحمل المتجه الى الحجاز. لم يدر اي معنى لانتهاء ذلك التدريب العبثي بكونه عامل لاسلكي في حرب ضروس. لم يدر لم وقع في الاسر ولم خُتم جسده بالنار. اقصد انه لم يرى معنى في ذلك و انما كان يمضي في الحكي عن كافة ما حدث و عن اسبابه المباشرة. كان يحكي عن ما جرى له في الحرب بمنتهى الشغف , ولكن اللامعنى مما جرى كان جليًا في صوته وتعبيراته. اقول : ورثت عنه اللامعنى.

تقول امي - وقد كانت ولا زالت تحب هذا الرجل - : ورثت عن جدك ان الدعاء خير كنز.
تحاول عبثًا شرح هذه الجملة العظيمة لكنها تخفق دومًا فتكون على قدر سيء عاجز امام بلاغة وتلقائية الجملة.

توفي جدي في ٨ يونيو ٢٠١١. وعندما علمت بالأمر في ٢ يوليو ٢٠١١ قال لي صديقي ان اهلي استصغروني اذ اخفوا عني خبر كهذا بسبب عبث الامتحانات. ولكني استشعرت ضغري الحقيقي بخبر غيابه في ذاته. و كنت بعيدا عن القرية التي تمدينت في حياته و امام ناظريه. لم اكن بجواره لأشتري خيوطُا.

استشعرت كذلك ان امرا ما وقع عندما سُرق هاتفي قبلها بيومين و بعد ساعات من اخر مكالمة.

تكرر امي انه طلب رؤيتي قبل وفاته , ربما لتعظم من قدري؟ ربما.
اكرر للعالم انه لم يغب عني يومًا , فقد كنت اقول ان الله في كل شيء, في كل ما يحيط بكم.
ولكني اقول ايضُا انه في كل ما يحيط بي , فقد كنت احبه و من حبي هذا استقيت حبي للكثير من الامور و الاشياء.
و اكتشفت فيما بعد ان كل ما تحب موجود في كل ما يحيط بك "فحالة الحب هي ذلك.المنظور و النموذج المعرفي الذي تنظر به الى كل شيء " كما قال صديق حكيم -و ان اقتطعت كلامه عن سياقه-.

و اخبركم ايضُا ان صدمة الموت حقيقية و فزعه حقيقي لا يخبو. اذ لم ازر قبره حتى الآن ولا مرة حتى رغم تصالحي مع موته.
لكنه زار صغيرتنا و اخبرها "انا زعلان من احمد"  ولأن احمد "مايقدرش على زعله" , فلنا زيارة ان شاء الله في اول فرصة مهما بَُعُدت.

ادرك الآن- اقصد حتى الآن- اني قد ورثت عنه : الدعاء - التسليم - خِلات الاسنان - اللاسلكي - اللامعنى- العقدة و الحكي.
و الأخيرتين تذكرانني بما ينقصني دومًا اذ ابدأ في الحكي و اهيم فيه. فأنا استرسل و اسرد دونما قواعد.
هل ورثت عقدته بالحنين الى الماضي؟ عقدة "كان جدي, كان جد جدي" ؟ هل هو الحكي ما ورثته ام الحنين؟ ام هو الفخر الذي اقاتل دومًا في الابتعاد عنه بالذات اذا ما اقترن بالأجداد؟

ترى هل سيستجيب ذلك الذي ادري هل سألته ام سألت غيره, مممم دعنا من الايمانيات الآن ولنقل : هل " يُستجاب" طلبي بأن اعيش مديدُا لأحكي كل شيء. كل ما سأحكيه و اكرره , اسمعه ويُكرر عليّ , ما سأعيشه و اتخيله, ما سأختلقه؟

و ان عشت , و ان حكيت, هل تراني اتبع القواعد ام امضي في الاسترسال؟!

اود ان اروث العالم حكاياته. اود ان اورث العالم الحكي ومتعته. متعة الاستماع يجب ان تكون افيون هذه الشعوب الصماء. هذا العالم الأبكم يجب ان يحكي. هذا العالم الميت يجب ان يُحكى.
ذلك الذي مضى فليُعاد عيشه بينما يُحكى. بينما نحكيه.

هذه الخيوط يجب ان تُعقد, هذه الإبر يجب أن تُلضم. هذه الخِرَق يجب ان تُرقّع.

٥ يونيو ٢٠١٥

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق