" ان الانسان عندما استخدم لأول مرة حجرا لكسر ثمرة جافة او لضرب حيوان فقد فعل امرا هاما جدا, ولكنه ليس جديدا كل الجدة, لأن آباءه الاوائل من فصيلته الحيوانية قد حاولوا فعل الامر نفسه. لكنه عندما وضع الحجر امام عينيه ونظر اليه بإعتباره رمزا لروح, فإنه بذلك قد قام بعمل اصبح السمة العامة التي لازمت الانسان في العالم كله, وهو امر جديد تماما في مجرى تطوره."
" ان الجوانب البيولوجية لظهور الانسان يمكن تفسيرها بالتاريخ السابق.اما الجوانب الروحية فلا يمكن استنتاجها او تفسيرها بأي شيء وُجد قبله. فالانسان قد هبط من عالم اخر مختلف, هبط من السماء طبقا للتصور الديني. " ص١٠٦
---
انعكاس ازدواجية الحياة :
هناك خلط غريب بين فكرة الثقافة وفكرة الحضارة.
الثقافة تبدأ "بالتمهيد السماوي" بما اشتمل عليه من دين وفن واخلاق وفلسفة, وستظل الثقافة تُعنى بعلاقة الانسان بتلك السماء التي هبط منها, فكل شيء في اطار الثقافة اما تأكيد او رفض او شك او تأمل في ذكريات ذلك الاصل السماوي للإنسان.
تتميز الثقافة بهذا اللغز, وتستنر هكذا خلال الزمن في نضال مستمر لحل هذا اللغز.
اما الحضارة, فهي استمرار للحضارة الحيوانية ذات البعد الواحد, التبادل المادي بين الانسان و الطبيعة. هذا الجانب من الحياة يختلف عن الحيوان فقط في الدرجة و المستوى و التنظيم. هنا لا نرى انسانا مرتبكا في مشاكلة الدينية, او مشكلة هاملت او مشكلة الاخوة كرامازوف , انما هو عضو المجتمع المغفل, وظيفته ان يتعامل مع سلع الطبيعة ويغير العالم بعمله وفق لاحتياجاته.
الثقافة هي تأثير الدين على الانسان او تأثير الانسان على نفسه, بينما الحضارة هي تأثير الذكاء على الطبيعة او على العالم الخارجي.
* الثقافة معناها "الفن الذي يكون به الانسان انسانًا".
*اما الحضارة فتعني "فن العمل و السيطرة وصناعة الاشياء صناعة دقيقة"
* الثقافة هي" الخلق المستمر للذات "
* الحضارة هي" التغيير المستمر للعالم"
وهذا هو تضاد : الانسان و الشيء, الإنسانية و الشيئية.
الدين و العقائد و الدراما و الشعر و الالعاب و الفنون الشعبية و القصص الشعبية و الاساطير و الاخلاق و الجمال, وعناصر الحياة السياسية والقانونية التي تؤكد على قيم الشخصية و الحرية و التسامح, والفلسفة والمسرح و المعارض و المتاحف والمكتبات- يمثل هذا كله الخط المتصل للثقافة الانسانية, الذي بدأ مشهده الأول في السماء بين الله و الإنسان. انه "صعود الجبل المقدس, الذي تظل قمته بعيدة المنال, سيرا في الظلام بواسطة شمعة مضيئه يحملها الانسان. ¹
الحضارة هي استمرار التقدم التقني لا الروحي, و التطور الدارويني استمرار للتقدم البيولوجي لا للتقدم الانساني. تمثل الحضارة تطور القوى الكامنة التي وُجدت في آبائنا الأوائل الذين كانوا اقل درجة في مراحل التطور. انها استمرار للعناصر الآلية- اي العناصر غير الواعية التي لا معنى لها في وجودنا- ولذا, فإن الحضارة ليست في ذاتها خيرًا ولا شرًا. وعلى الإنسان ان يبني حضارة تماما كما ان عليه ان يتنفس ويأكل. انها تعبير عن الضرورة وعن النقص في حريتنا. اما الثقافة, فعلى العكس من ذلك : هي الشعور الابدي بالإختيار و التعبير عن حرية الانسان.
يزداد اعتماد الانسان على المادة في الحياة الحضارية بصفة مستمرة, وقد وجد احدهم ان كل امريكي -رجلا او امرأة او طفل- يستهلك في المتوسط ١٨ طنا من المواد المختلفة سنويا.
والحضارة في خلقها الدائم لضرورات جديدة وقدرتها على فرض الحاجة على من لا حاجة له , تعزز التبادل المادي بين الانسان والطبيعة وتُغري الانسان بالحياة البرانية على حساب الحياة الجوانية. "وانتج لتربح , و اربح لتبدد" هذه سمة في جبلة الحضارة.
اما الثقافة (وفقا لطبيعتها الروحية²) فتميل الى التقليل من احتياجات الانسان او الحد من درجة اشباعها, وبهذه الطريقة توسع آفاق الحرية الجوانية للإنسان. وهذا هو المعنى الحقيقي لأنواع كثيرة من التنسك وانكار الذات عُرفت في جميع الثقافات. منها ما يفترض شكلا غامضًا من اشكال "تكريس قلة النظافة " التي نراها عند الرهبان و الهيبيز على حد سواء.
فعلى عكس حكمة الأديان³ في كبح الرغبات, فأن الحضارة -وهي محكومة بمنطق مضاد- عليها ان ترفع شعارا مضادًا : "اطلق رغبات جديدة دائما و ابدًا" ⁴. و المعنى الصحيح وراء هذه التوجهات المتضاربة لا يدركه الا شخص يعلم انها لم تأت في اي من المثالين السابقين. انها تُرينا ان الانسان كائن متناقض, فهو يعكس غموض الطبيعة الانسانية, كما يعكس هذا التضارب بين الثقافة و الحضارة.
حامل الثقافة هو الانسان, وحامل الحضارة هو المجتمع, ومعنى الثقافة القوة الذاتية التي تكتسب بالتنشئة, اما الحضارة فهي قوة على الطبيعة عن طريق العلم. فالعلم و التكنولوجيا و المدن و الدول كلها تنتمي الى الحضارة. وسائل الحضارة هي الفكر و اللغة و الكتابة5. وكل من الثقافة و الحضارة ينتمي احدهما للآخر كما ينتمي عالم السماء الى هذا العالم الدنيوي, احدهما دراما و الآخر طوبيا.
---
الاسلام بين الشرق والغرب , الفصل الثاني : الثقافة و الحضارة. الباب الاول : الأداه و العبادة. ص ١٠٦- ١٠٩
1- Andre Malraux : Antimemoris (Zegred: Naprjed, 1969)p.276
2- الاصل : طبيعتها الدينية. الناقل
3- الاصل : حكمة الاسلام. الناقل
4- في صحيفة نيويورك تايمز ظهرت مقالة تصف هذا الشعار بأنه الوصية الأولى للعصر الحديث . المؤلف.
5- اثبت "مارشال ماكلوهان" ان الكتابة تحدث تغييرات في طرائق التفكير و أن "استعمال نوع من الالفبائية ينتج ويدعم عادة التعبير في لغة مرئية ومكانية, خصوضا في ظروف مكان مطرد وزمان مطرد بإستمرار ودوام
Mclahan: The Gatenberg Galaxy (Beograd: Nolit, 1913) p.32