"تلك الاغنيات" او "ذلك النوع من الاغنيات" الذي نحتار في تسميته ونحتار
في امره الا من الانتماء له لكونه يشبهنا, بل نحتار في تعريف انفسنا او
تحديد "من نحن" هؤلاء المختلفون عن الجموع ومختلفون عن بعضهم البعض ورغم
ذلك يجمعهم الانتماء للإختلاف. لهم هذه الحكاية.
واحدة من " تلك الاغنيات" تبدأ بحوار مختلف بين اعضاء الفرقة بلغة
محسوسة غير مفهومة, اذ يجري الحوار هكذا :
يبدأ احدهم بأحرف مفخمة : بمّ با
يرد الاخر بنفس التفخيم : برا را را رم با
فيكررها اعضاء الفرق جميعا ثم يبدأون في الغناء عن عيناها التي تعلمنا
السفر وحب الاصدقاء.. ¹
-
في احد افلامه -وعلى غير المعتاد- يمر جان كلود فاندام بقصة ذات معنى, اذ
تدفعه الاحداث لان يتم سجنه في احد اقسى سجون اوروبا الشرقية بل ويتم
الزج به في الحبس الانفرادي بهدف الضغط عليه ليصبح كباقي السجناء يعشق
العنف ويشارك في القتالات المتكررة بينهم.
وبينما هو معزول في زنزانته يسمع البطل الامريكي طرق على الجدران مصحوب
بصرخات تبدو لاول وهلة غير انسانية, ورويدا رويدا يبدأ في الطرق على
جدران زنزانته بطرقات تبدو ممنهجة فيرد عليها صاحب الزنزانة الاخرى
ويتحدثان بتلك الطرقات ويهدئان من روع كليهما بلغة اخترعاها للتو!
-
على هذه الارض ما يستحق الحياة … خوف الطغاة من الاغنيات
-
في فترة التجنيد تختلط بمختلف طوائف وعقليات الشعب كما لم ولن تفعل في
حياتك, و تكتشف بيقين لا مبدل له انك غريب عن هذا الشعب بمتعلميه و جهلته
بصعيده وشماله بموروثه وثقافته.
اذ ان لهؤلاء فنون مختلفة عما اختبرته, فنون تعجز عن اشتراط ربطها اذ
يتشارك فيها الاغنياء و الفقراء مع المتعلمين و الجهلة من الجندل للمصب,
فهل هذه ثقافتهم الحالية و انت الغريب عنها ام العكس?
-
تنفرد مع نفسك مهمها بموال صعيدي او مربعات فيكون اول المتعجبين
المستغربين لما تقول هم الصعايدة انفسهم! اذ لم يسمع احدهم من تغنيه من
قبل و بالكاد يفهم معناه!
يتكرر نفس الامر مع البدو حين تطربك مجرودة بدوية.
يتكرر الامر مع خريجي الازهر و كليات اللغة الذين لا يفهمون حرف من قصيدة ترددها.
انها الغربة اذا! تحاول الوصول لكل حسب ثقافته فتجد ان ثقافتهم جميعا من
مسخ واحد وكأن روافدهم واحدة مثلا! هنا تجري البشرية على عكس قواعدك
النظرية. هنا الواقع.
-
اسير مع الزملاء في الطابور اصغي لهمهماتهم لعلي اجد اغنية او موال
يطربني و اتعلق به وتبدأ بيني وصاحبه صلة, فلا اجد سوى ذلك "المهرجان"
الذي كان شائعا وقتئذ.
فلا يجذبني سوى ذلك القروي الذي يدفع المجموعة للغناء وترديد اهازيج
الفلاحين في تراحيلهم. فعلى الرغم من اختلاف الاغنيات عن ثقافتي ومعتادي,
اجد في اغترابه أنس لإغترابي.
بعد ايام سيصل صديقي الى مركز التدريب و نبدأ سويا في بناء وطننا من
الاغنيات. حتى اذا اختلفنا في تذكر احد ابيات الشعر او مقاطع اغنية اتسلل
خارجا او انتظر فرصة زيارة اهلي لاحفظ مقطع جديد فأردده عند عودتي. ليصبح
مقطع الاغنية في ذهني هو اغرب ما هربه المجندون على الاطلاق!
-
نتفرق وصديقي و اعود لايام الغربة التي يتعجب فيها الجميع من الاغنيات
التي ارددها.
حتى يأتي يوم اقول فيه "بيني وبينك سور ورا سور" يائسا في صحراء العامرية
فأجد اخيرا من يردد " و انا لا مارد ولا عصفور". تم العثور على طه. وعدت
لأبني وطن جديد في هذه الغربة و مجددا, كان وطن من الاغنيات
---
في عصر الاضطهاد المسيحي ³ كان على المسيحيين اخفاء دينهم هربا من القتل
خاصة اذا كانوا في الاماكن المعمورة ولم يلجأوا للصحراء كغيرهم.
وعلى الرغم من حرصهم الشديد على اخفاء دينهم فإن دافع الانتماء للجماعة
دفع البعض لابتكار رموز تنفذ برسم صغير في المكان لتشعر المسيحي الذي يمر
منه بأنه ليس وحده و ان هناك من يشاركه معاناته, ومعتقداته وعذاب
اخفاءها.
فكان رسم السمكة يخبر من يراه بأن "مسيحي مر من هنا" او "ثمة مسيحي نجا
من القتل" او بالأخص و الأهم "لست وحدك"
--
على عكس طه الذي جهر بكامل الاغنية حينما بدأت بها, فإن احد الزملاء وهو
ينظر لأجسادنا الملقاه على الارض متكدسة متلاصقة, احجم عن اكمال جملته
"شكل العيال دي وهي نايمة متلزقة كدة بيفكرني بشكل الج………"
ولم يجبني عندما طلبت منه ان يكمل, لكنني رأيتها في عينه "بشكل الجثث في
المستشفى الميداني".
-
في ايام السجن وبعد طول غربة و انا اردد : "بمّ با?" في صيغة سؤال ولا
اجد من يجيب عليه...
اوقعني القدر مع زميل امضى نوبات حراسة علينا في السجن وبعد تجاذب اطراف
الحديث بنينا وطن من الاغنيات استمر ساعتين بدأ بأن سمعني اهمهم ب "شيد
قصورك ع المزارع" و انتهى بسعاد ماسي و اسكندريلا و اخرين..
-
"هنادي عليك بالتمام يا صاحبي عشان تعرف اني معاك"
جملة مفادها ان احمد عبد الله سوف ينادي من بعيد بالرقم "6" بصوت عال حتى
نعرف نحن المساجين انه يسلم علينا ويرسل التحيات. فقد حول احمد ال "حد"
الذي يعتبر اكثر ما يكرهه الجندي في الخدمة الى لغة للتواصل مع زملاءه!
--
بعد ان ضاقت ادارة السجن به ذرعا قررت التخلص منه بأن اطلقت عليه احد
المساجين المسمى بالوحش فخرج عليه شخص ضخم البنية وسمين ومقنع ولا يفعل
شيء سوى الصراخ و الضرب.
وبعد ان انهال عليه بالضرب وقذفه بعيدا اذا بالوحش يطرق غاضبا على احد
الجدران فينتبه البطل انها نفس الطرقات التي كان يتواصل بها مع صاحب
الصرخات في الزنزانة المجاورة فيبدأ في تكرار نفس الاسلوب ليدرك الوحش ان
هذا الرجل هو صاحب التواصل وهو الوحيد الذي عامله -دون ان يراه- انه
انسان عاقل يمكن التواصل وليس مجرد وحش يُعقل فترة ثم يطلق كي يضرب ويكسر
ثم يعقل مجددا.
-
في اخر ايام تجنيدي قابلت طه , وللصدفة كان معنا احد من لازمتهم فترة
طويلة وكان يتعجب من اغنياتي و يستغربها, فسألت طه سؤالا لطالما سألته
لغيره على مدار عام كامل ولم يجب احد.
سألته "بمّ با?"
فأجاب " برا را را رم با"
ورددناها سويا و بدأنا نغني عن عيناها التي تعلمنا السفر و حب الاصدقاء و
تناولنا الحديث بعدها غربة كل منا في وسط الجموع بسبب اغنياتنا. تلك
الغربة التي تدفعني للنظر لكل صديق اراه بعد انقضاء مدة التجنيد و اسأله
متيقنًا من الاجابة, و بأحرف مفخمة : بمّ با?
في امره الا من الانتماء له لكونه يشبهنا, بل نحتار في تعريف انفسنا او
تحديد "من نحن" هؤلاء المختلفون عن الجموع ومختلفون عن بعضهم البعض ورغم
ذلك يجمعهم الانتماء للإختلاف. لهم هذه الحكاية.
واحدة من " تلك الاغنيات" تبدأ بحوار مختلف بين اعضاء الفرقة بلغة
محسوسة غير مفهومة, اذ يجري الحوار هكذا :
يبدأ احدهم بأحرف مفخمة : بمّ با
يرد الاخر بنفس التفخيم : برا را را رم با
فيكررها اعضاء الفرق جميعا ثم يبدأون في الغناء عن عيناها التي تعلمنا
السفر وحب الاصدقاء.. ¹
-
في احد افلامه -وعلى غير المعتاد- يمر جان كلود فاندام بقصة ذات معنى, اذ
تدفعه الاحداث لان يتم سجنه في احد اقسى سجون اوروبا الشرقية بل ويتم
الزج به في الحبس الانفرادي بهدف الضغط عليه ليصبح كباقي السجناء يعشق
العنف ويشارك في القتالات المتكررة بينهم.
وبينما هو معزول في زنزانته يسمع البطل الامريكي طرق على الجدران مصحوب
بصرخات تبدو لاول وهلة غير انسانية, ورويدا رويدا يبدأ في الطرق على
جدران زنزانته بطرقات تبدو ممنهجة فيرد عليها صاحب الزنزانة الاخرى
ويتحدثان بتلك الطرقات ويهدئان من روع كليهما بلغة اخترعاها للتو!
-
على هذه الارض ما يستحق الحياة … خوف الطغاة من الاغنيات
-
في فترة التجنيد تختلط بمختلف طوائف وعقليات الشعب كما لم ولن تفعل في
حياتك, و تكتشف بيقين لا مبدل له انك غريب عن هذا الشعب بمتعلميه و جهلته
بصعيده وشماله بموروثه وثقافته.
اذ ان لهؤلاء فنون مختلفة عما اختبرته, فنون تعجز عن اشتراط ربطها اذ
يتشارك فيها الاغنياء و الفقراء مع المتعلمين و الجهلة من الجندل للمصب,
فهل هذه ثقافتهم الحالية و انت الغريب عنها ام العكس?
-
تنفرد مع نفسك مهمها بموال صعيدي او مربعات فيكون اول المتعجبين
المستغربين لما تقول هم الصعايدة انفسهم! اذ لم يسمع احدهم من تغنيه من
قبل و بالكاد يفهم معناه!
يتكرر نفس الامر مع البدو حين تطربك مجرودة بدوية.
يتكرر الامر مع خريجي الازهر و كليات اللغة الذين لا يفهمون حرف من قصيدة ترددها.
انها الغربة اذا! تحاول الوصول لكل حسب ثقافته فتجد ان ثقافتهم جميعا من
مسخ واحد وكأن روافدهم واحدة مثلا! هنا تجري البشرية على عكس قواعدك
النظرية. هنا الواقع.
-
اسير مع الزملاء في الطابور اصغي لهمهماتهم لعلي اجد اغنية او موال
يطربني و اتعلق به وتبدأ بيني وصاحبه صلة, فلا اجد سوى ذلك "المهرجان"
الذي كان شائعا وقتئذ.
فلا يجذبني سوى ذلك القروي الذي يدفع المجموعة للغناء وترديد اهازيج
الفلاحين في تراحيلهم. فعلى الرغم من اختلاف الاغنيات عن ثقافتي ومعتادي,
اجد في اغترابه أنس لإغترابي.
بعد ايام سيصل صديقي الى مركز التدريب و نبدأ سويا في بناء وطننا من
الاغنيات. حتى اذا اختلفنا في تذكر احد ابيات الشعر او مقاطع اغنية اتسلل
خارجا او انتظر فرصة زيارة اهلي لاحفظ مقطع جديد فأردده عند عودتي. ليصبح
مقطع الاغنية في ذهني هو اغرب ما هربه المجندون على الاطلاق!
-
نتفرق وصديقي و اعود لايام الغربة التي يتعجب فيها الجميع من الاغنيات
التي ارددها.
حتى يأتي يوم اقول فيه "بيني وبينك سور ورا سور" يائسا في صحراء العامرية
فأجد اخيرا من يردد " و انا لا مارد ولا عصفور". تم العثور على طه. وعدت
لأبني وطن جديد في هذه الغربة و مجددا, كان وطن من الاغنيات
---
في عصر الاضطهاد المسيحي ³ كان على المسيحيين اخفاء دينهم هربا من القتل
خاصة اذا كانوا في الاماكن المعمورة ولم يلجأوا للصحراء كغيرهم.
وعلى الرغم من حرصهم الشديد على اخفاء دينهم فإن دافع الانتماء للجماعة
دفع البعض لابتكار رموز تنفذ برسم صغير في المكان لتشعر المسيحي الذي يمر
منه بأنه ليس وحده و ان هناك من يشاركه معاناته, ومعتقداته وعذاب
اخفاءها.
فكان رسم السمكة يخبر من يراه بأن "مسيحي مر من هنا" او "ثمة مسيحي نجا
من القتل" او بالأخص و الأهم "لست وحدك"
--
على عكس طه الذي جهر بكامل الاغنية حينما بدأت بها, فإن احد الزملاء وهو
ينظر لأجسادنا الملقاه على الارض متكدسة متلاصقة, احجم عن اكمال جملته
"شكل العيال دي وهي نايمة متلزقة كدة بيفكرني بشكل الج………"
ولم يجبني عندما طلبت منه ان يكمل, لكنني رأيتها في عينه "بشكل الجثث في
المستشفى الميداني".
-
في ايام السجن وبعد طول غربة و انا اردد : "بمّ با?" في صيغة سؤال ولا
اجد من يجيب عليه...
اوقعني القدر مع زميل امضى نوبات حراسة علينا في السجن وبعد تجاذب اطراف
الحديث بنينا وطن من الاغنيات استمر ساعتين بدأ بأن سمعني اهمهم ب "شيد
قصورك ع المزارع" و انتهى بسعاد ماسي و اسكندريلا و اخرين..
-
"هنادي عليك بالتمام يا صاحبي عشان تعرف اني معاك"
جملة مفادها ان احمد عبد الله سوف ينادي من بعيد بالرقم "6" بصوت عال حتى
نعرف نحن المساجين انه يسلم علينا ويرسل التحيات. فقد حول احمد ال "حد"
الذي يعتبر اكثر ما يكرهه الجندي في الخدمة الى لغة للتواصل مع زملاءه!
--
بعد ان ضاقت ادارة السجن به ذرعا قررت التخلص منه بأن اطلقت عليه احد
المساجين المسمى بالوحش فخرج عليه شخص ضخم البنية وسمين ومقنع ولا يفعل
شيء سوى الصراخ و الضرب.
وبعد ان انهال عليه بالضرب وقذفه بعيدا اذا بالوحش يطرق غاضبا على احد
الجدران فينتبه البطل انها نفس الطرقات التي كان يتواصل بها مع صاحب
الصرخات في الزنزانة المجاورة فيبدأ في تكرار نفس الاسلوب ليدرك الوحش ان
هذا الرجل هو صاحب التواصل وهو الوحيد الذي عامله -دون ان يراه- انه
انسان عاقل يمكن التواصل وليس مجرد وحش يُعقل فترة ثم يطلق كي يضرب ويكسر
ثم يعقل مجددا.
-
في اخر ايام تجنيدي قابلت طه , وللصدفة كان معنا احد من لازمتهم فترة
طويلة وكان يتعجب من اغنياتي و يستغربها, فسألت طه سؤالا لطالما سألته
لغيره على مدار عام كامل ولم يجب احد.
سألته "بمّ با?"
فأجاب " برا را را رم با"
ورددناها سويا و بدأنا نغني عن عيناها التي تعلمنا السفر و حب الاصدقاء و
تناولنا الحديث بعدها غربة كل منا في وسط الجموع بسبب اغنياتنا. تلك
الغربة التي تدفعني للنظر لكل صديق اراه بعد انقضاء مدة التجنيد و اسأله
متيقنًا من الاجابة, و بأحرف مفخمة : بمّ با?
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق