سوف أكتب -يومًا ما- مجلدًا عن ان السجن -في ذاته- لا يقتل, بل الشوق
الى البراح هو المميت.
ولكني الآن سأقوم -على غير عادتي- بتدوين لحظات و تسجيلها فور بل اثناء
حدوثها. فإن اخشى ما اخشاه ان أُكذّب نفسي او على الاقل لا أصدقني فيمن
لا يصدقونني ومن لن يصدقونني حين يأتي ذلك اليوم الذي سأكتب فيه مجلدًا
احكي فيه أني رأيتها تنازع -او ربما اتبين حينها انها كانت تحتضر- لا من
مرض بل من شوقٍ الى البراح.
تتلمذت على من لم يخترونني بل اخترتهم ومن بينهم ذلك الرحال الذي يومًا
قال " وثّق نفسك فقد تكون فيما بعد انت الحكاية, انت فعلا الحكاية"¹ لذلك
سأحاول توثيق هذه اللحظة التي اكتشفت فيها -وعلى عكس حتمية ما تؤول له
هذا النوع من العلاقات- انها لم تعلمني, بل اخترت انا التعلم من مواقفها,
افكارها, مشوارها, معاناتها, حتى رموزها و اشاراتها التي لا تدرك نفسها
لها بعدا من ابعادها.
اخترت ذلك ادراكًا مني لأهمية و قيمة كيانها وتفرّده عن غيره في ان دراسة
هذا الكيان و تشّربه تعلمًا وكذلك التعلم منه سيساعدني بشكل كبير في
حياتي على كافة الاصعدة. اذ يتميز هذا النبع عن غيره بميزات كثيرة تُجمل
في القول انه نبعي الذي اندفقت منه.
في علوم الوراثة لا يخبرونك بأن جينات الشِعر انتقلت من مريد الى تميم
كما لم ينتقل اليه الخيال السحري عبر حبل رضوى السُريّ. *
ولأن هذا حكي عن لحظات النزع نحو البراح فهو حكي روحي تماما ولا علاقة له
بالبشر او اجسادهم البالية وان كانت هي مظهر ذلك النزع.
يوميًا اصرف بنفسي تذاكر ادوية متعددة الصنوف و السبب و الأثر. ورغم تحسن
الوظائف الحيوية و رغم انضباط اصوات الاجهزة المبني على الحسابات
المنطقية و النظريات العلمية, الا ان توقها و شوقها نحو البراح جليًّا
حاضرًا في عيونها وصوتها.
ولمن لا يعلم فإن العين و القلب اجزاء مادية في الجسم ولكنها تستخدم في
كناية عن امور روحية ك"لمعة العين" و "خفقة الشوق" و مؤخرًا أُثبت ان
الصوت مادي ورغم ذلك مازلنا لا نلحظ للكلام عن الحنين و الشوق اثرًا على
الاذن بل نشعر به في "تلك الخفقة" في قلوب المستمع ونراه في "تلك اللمعة"
في عيني المتكلم او المُصدِق.
ولأن ما سبق لم يُدرّس في كليات الطب الغربية او العربية المستغربة او
العربية الاصيلة او العربية مدعية الأصالة في تشبث جاهلي بمصطلحات ميتة,
فهي اول مرة ادرك اهمية ان تكون انت طبيب نفسك. تمنيت وقتها لو اني كنت
طبيبًا كي أضع ما سبق من معرفتي بها ودراستها في sheet السرير الخاص بها
في العناية المركزة :"
التشخيص :
فشل كلوي مزمن
ارتفاع السكر
تلوث في الدم
حنين الى البراح
أوصي ب :
انتظام جلسات الكلى
محاليل
مضادات حيوية
نافذة
اغنية تحبها
و انتظام الجلسات مع شخص تحبه ويحب ان يسمعها ( يُفضل ان تكون عين صاحبها
بها "تلك اللمعة" عندما يسمع شوقها)
التوقيع
فلان ابن فلانة"
لم ار قط في حياتي ذلك ال sheet سوى مرة قبل ساعات من كتابة هذه السطور و
لم ادرك من عدم فهمي لما كتب به اسلوبًا او لغةً اني لست طبيبا, فأنا
اعرف ذلك ولا ادعيه, ولكني ادركت كم غفلت قرونًا عن متابعة حالة
"مركوبها" ² و اغفلت عقودًا من الالحاح في وضعه في معادلة دراسة هذا
الكيان و التعلم منه.
قيل لي اني احب جميع الناس و قيل ايضًا اني مريض بالحنين. و وضع "ايضًا"
في السياق ليس تذمرًا بل هو تذكير لنفسي باستهتارًا سابقًا بتلكما
المقولتين , و اعتيادًا واتساقا حاليًا معهما.لم يكن الاتساق نابعا من
تأملات فكرية او جلسات تأمل مع نفسي و رحلة بحث عن اجوبة لأسئلتي الكبرى,
بل كان مرورا عابرا لحياتها و نشأتها و مواقفها كفيلا بأن يجزم انهما
مورثات غير مسجلة في صحيفة ال DNA لأي منا.
اتساقًا بدأ مع رغبتي الحقيقية في ان يصبحا محوران لحياتي ولكن بشكل
منمق منتظم بحيث لا يصبح اي منهما عالة , فلا يدفعني حب الناس نحو
العلاقات غير الكاملة بل يدفعني نحو تنظيمها و وضعها في حظيرة رعاية
منضبطة, ولا يدفعني الحنين نحو حكي قصص غير مكتملة بل يمنعني من التخاذل
عن التواصل مع الاشخاص و الاماكن الذين فارقتهم ويذكرني دومًا بالوعود
التي قطعتها ويدفعني لإنفاذها و تسريع وتيرة ذلك الانفاذ بل ويذكرني
بالكتب التي لم اكمل قراءتها و يفند الحنين مع رفيقه "حبي للناس" تلك
الكتب الى ما يستحق الاكمال وما يستحق ان لا يكتمل بحيث يتخلص ضميري من
اعباء المقولتين , المحورين اقصد.
سيصعب على المنتقد و عالِم النفس ان يفسر ما سبق على انه حنين اليها و
عرفانا وليس تفاخرا بالاتساق و غيرها من امور غير ذات قيمة بدونها.
ان الحنين امر جيد و حالة رائعة بالذات اذا تم وصل من/ما تحن اليه.
جملة صريحة في اخر الفقرة تعيد للأذهان اهمية الوصل في حياتي بل قد تدفع
للقول بأن هذه قصة اخرى عن الوصل. لكنها ليست كذلك. هي علامة سأعود لها
بعد حين كي أُوصل حنين سيأخذني لهذه الايام العصيبة. بالتأكيد.
كتبت فقرة اخرى عن ان ثمة امور لا دليل مادي عليها ولكني مؤمن بها تتحكم
في حياتي وحياة اشد الماديين مادية. لكنني حذفتها خوفًا من اصبح مزحة
كموظف سوفيتي حاول عبثًا طوال ما بقى من حياته ان يوضح لرئيسه في العمل
(كان جنرالا) انه لم يقصد الاساءة له في السينما قبل ايام من وفاته حسرة
على عدم احساسه بأن الجنرال صدقه رغم انه صرّح له بذلك كثيرا. ³
لن اواصل الكتابة عن "نصاحتي" في فهم علّتها فإن كان التفاخر امرًا يحبه
الرجال فأنا احب الحكي.
لذلك سأقول ان ما رآه الأمير الذي أُستعبد بعد اذلال مَلكه و أُقحم في
ساحة يصارع الوحوش و الرجال محررا من قيد الاغلال مقيدًا بغل البقاء, ما
رآه ذلك الشخص حين موته اذ رأى زوجته المقتوله تتمشى في البراح و تفتح له
باب جِنان خضراء, كان ذلك حقيقة امام ناظريه ولم يكن خيال كاتب. و ان
كانت القصة كلها خيال فإن ذلك كان حقيقة في القصة. ⁴
ان السجن لا يقتل فالكثيرون يعيشون ليخرجوا من العناية المركزة ليعيشوا
على اجهزة ضبط الكذا و ادوية ضبط الكذا كذا, ولكن الشوق الى البراح هو
الذي يدفع التوّاقين الى نزع الانابيب و فصل الاجهزة والإفاقة من المخدر
ورفض النوم و الاكل, لعل ذلك منفذهم الأخير نحو براح سمعوا عنه وتمنوه
في دنيا كئيبة ان كانت حرة الأغلال فهي مقيدة بأغلال البقاء.
ان الشوق الى البراح مميت و ان الموت هو نافذتنا الى كل براح نرجوه ان
يخرج بنا من اغلال الدنيا. وتلك ليست كآبة بل انني اؤكد ان البراح في
الدنيا موجود و متحقق برغم كونه صعب المنال كحضن حبيبة محجبة ومتحجبة
ومحجوبة بألف حجاب, ولكن انا هنا اتحدث عن البراح الذي نرجوه خارج هذه
الدنيا. البراح الذي أشعر براحه ادم بالضيق عندما نظر الى الارض بينما
ينزل اليها و قال : "انها صغيرة جدا وضيقة جدًا و كئيبة جدا" قالها بينما
انقبضت خفقة في قلبه و انطفأت لمعة في عينه, لنتوارث قبضة القلب تلك
وعبوس العين ذاك كلما نظرنا الى ضيق بعد براح. نستدعيهما في العناية
المركزة و المستشفيات بعد الحدائق و المتنزهات يرتسمان فينا بتقاصيلهما
تماما كما ارتسمتا على قلب وعين آدم حين نظر الى ارض الشقاء بعد سماء
الآمال و الهناء. **
ستزداد كلماتي وقعًا وألمًا وقيمة اذا لم تخرج من العناية المركزة. ستصبح
خالدة في حياتي تلك اللحظات التي كتبت هذا فيها. ربما سأستفيد بها ماديًا
او اوقف ريعها لصالح مرضى الفشل الكلوي ومرضى البراح, حين انشرها تحت
عنوان "موت سرير رقم 8 " ليحاكي أصالة كاتب لم يقبل التهجير من الارض على
ضيقها, فهُجّر من الدنيا عنوة بالموت الى البراح.***
لكني ازهد هذه المرة في القيمة و اجزع من الالم و أنذر الدعم المادي و
المعنوي لمرضى الفشل الكلوي و مرضى البراح اذ اكتب الآن عن حياة سرير
رقم 8 وتمسكه بالحياة و توقه نحو البراح ووعودنا المتبادلة عن براح
سنتشاركه بعد الخروج من اغلال الاجهزة الحيوية وسجن العناية المركزة و
معسكر المستشفى.
------
1- اسعد طه
* تميم البرغوثي شاعر ابن مريد البرغوثي الشاعر ايضًا و الأديبة رضوى عاشور.
2- تقرير مراكيب السيدة راء - تقارير السيدة راء - مجموعة قصصية -رضوى عاشور
3- وفاة موظف - قصة قصيرة - انطون تشيخوف
4- اسطورة وفيلم سينيمائي The gladiator
** أمي اسمها آمال و خالتي اسمها هناء.
***الكاتب غسان كنفاني و الكتاب موت سرير رقم 12
الى البراح هو المميت.
ولكني الآن سأقوم -على غير عادتي- بتدوين لحظات و تسجيلها فور بل اثناء
حدوثها. فإن اخشى ما اخشاه ان أُكذّب نفسي او على الاقل لا أصدقني فيمن
لا يصدقونني ومن لن يصدقونني حين يأتي ذلك اليوم الذي سأكتب فيه مجلدًا
احكي فيه أني رأيتها تنازع -او ربما اتبين حينها انها كانت تحتضر- لا من
مرض بل من شوقٍ الى البراح.
تتلمذت على من لم يخترونني بل اخترتهم ومن بينهم ذلك الرحال الذي يومًا
قال " وثّق نفسك فقد تكون فيما بعد انت الحكاية, انت فعلا الحكاية"¹ لذلك
سأحاول توثيق هذه اللحظة التي اكتشفت فيها -وعلى عكس حتمية ما تؤول له
هذا النوع من العلاقات- انها لم تعلمني, بل اخترت انا التعلم من مواقفها,
افكارها, مشوارها, معاناتها, حتى رموزها و اشاراتها التي لا تدرك نفسها
لها بعدا من ابعادها.
اخترت ذلك ادراكًا مني لأهمية و قيمة كيانها وتفرّده عن غيره في ان دراسة
هذا الكيان و تشّربه تعلمًا وكذلك التعلم منه سيساعدني بشكل كبير في
حياتي على كافة الاصعدة. اذ يتميز هذا النبع عن غيره بميزات كثيرة تُجمل
في القول انه نبعي الذي اندفقت منه.
في علوم الوراثة لا يخبرونك بأن جينات الشِعر انتقلت من مريد الى تميم
كما لم ينتقل اليه الخيال السحري عبر حبل رضوى السُريّ. *
ولأن هذا حكي عن لحظات النزع نحو البراح فهو حكي روحي تماما ولا علاقة له
بالبشر او اجسادهم البالية وان كانت هي مظهر ذلك النزع.
يوميًا اصرف بنفسي تذاكر ادوية متعددة الصنوف و السبب و الأثر. ورغم تحسن
الوظائف الحيوية و رغم انضباط اصوات الاجهزة المبني على الحسابات
المنطقية و النظريات العلمية, الا ان توقها و شوقها نحو البراح جليًّا
حاضرًا في عيونها وصوتها.
ولمن لا يعلم فإن العين و القلب اجزاء مادية في الجسم ولكنها تستخدم في
كناية عن امور روحية ك"لمعة العين" و "خفقة الشوق" و مؤخرًا أُثبت ان
الصوت مادي ورغم ذلك مازلنا لا نلحظ للكلام عن الحنين و الشوق اثرًا على
الاذن بل نشعر به في "تلك الخفقة" في قلوب المستمع ونراه في "تلك اللمعة"
في عيني المتكلم او المُصدِق.
ولأن ما سبق لم يُدرّس في كليات الطب الغربية او العربية المستغربة او
العربية الاصيلة او العربية مدعية الأصالة في تشبث جاهلي بمصطلحات ميتة,
فهي اول مرة ادرك اهمية ان تكون انت طبيب نفسك. تمنيت وقتها لو اني كنت
طبيبًا كي أضع ما سبق من معرفتي بها ودراستها في sheet السرير الخاص بها
في العناية المركزة :"
التشخيص :
فشل كلوي مزمن
ارتفاع السكر
تلوث في الدم
حنين الى البراح
أوصي ب :
انتظام جلسات الكلى
محاليل
مضادات حيوية
نافذة
اغنية تحبها
و انتظام الجلسات مع شخص تحبه ويحب ان يسمعها ( يُفضل ان تكون عين صاحبها
بها "تلك اللمعة" عندما يسمع شوقها)
التوقيع
فلان ابن فلانة"
لم ار قط في حياتي ذلك ال sheet سوى مرة قبل ساعات من كتابة هذه السطور و
لم ادرك من عدم فهمي لما كتب به اسلوبًا او لغةً اني لست طبيبا, فأنا
اعرف ذلك ولا ادعيه, ولكني ادركت كم غفلت قرونًا عن متابعة حالة
"مركوبها" ² و اغفلت عقودًا من الالحاح في وضعه في معادلة دراسة هذا
الكيان و التعلم منه.
قيل لي اني احب جميع الناس و قيل ايضًا اني مريض بالحنين. و وضع "ايضًا"
في السياق ليس تذمرًا بل هو تذكير لنفسي باستهتارًا سابقًا بتلكما
المقولتين , و اعتيادًا واتساقا حاليًا معهما.لم يكن الاتساق نابعا من
تأملات فكرية او جلسات تأمل مع نفسي و رحلة بحث عن اجوبة لأسئلتي الكبرى,
بل كان مرورا عابرا لحياتها و نشأتها و مواقفها كفيلا بأن يجزم انهما
مورثات غير مسجلة في صحيفة ال DNA لأي منا.
اتساقًا بدأ مع رغبتي الحقيقية في ان يصبحا محوران لحياتي ولكن بشكل
منمق منتظم بحيث لا يصبح اي منهما عالة , فلا يدفعني حب الناس نحو
العلاقات غير الكاملة بل يدفعني نحو تنظيمها و وضعها في حظيرة رعاية
منضبطة, ولا يدفعني الحنين نحو حكي قصص غير مكتملة بل يمنعني من التخاذل
عن التواصل مع الاشخاص و الاماكن الذين فارقتهم ويذكرني دومًا بالوعود
التي قطعتها ويدفعني لإنفاذها و تسريع وتيرة ذلك الانفاذ بل ويذكرني
بالكتب التي لم اكمل قراءتها و يفند الحنين مع رفيقه "حبي للناس" تلك
الكتب الى ما يستحق الاكمال وما يستحق ان لا يكتمل بحيث يتخلص ضميري من
اعباء المقولتين , المحورين اقصد.
سيصعب على المنتقد و عالِم النفس ان يفسر ما سبق على انه حنين اليها و
عرفانا وليس تفاخرا بالاتساق و غيرها من امور غير ذات قيمة بدونها.
ان الحنين امر جيد و حالة رائعة بالذات اذا تم وصل من/ما تحن اليه.
جملة صريحة في اخر الفقرة تعيد للأذهان اهمية الوصل في حياتي بل قد تدفع
للقول بأن هذه قصة اخرى عن الوصل. لكنها ليست كذلك. هي علامة سأعود لها
بعد حين كي أُوصل حنين سيأخذني لهذه الايام العصيبة. بالتأكيد.
كتبت فقرة اخرى عن ان ثمة امور لا دليل مادي عليها ولكني مؤمن بها تتحكم
في حياتي وحياة اشد الماديين مادية. لكنني حذفتها خوفًا من اصبح مزحة
كموظف سوفيتي حاول عبثًا طوال ما بقى من حياته ان يوضح لرئيسه في العمل
(كان جنرالا) انه لم يقصد الاساءة له في السينما قبل ايام من وفاته حسرة
على عدم احساسه بأن الجنرال صدقه رغم انه صرّح له بذلك كثيرا. ³
لن اواصل الكتابة عن "نصاحتي" في فهم علّتها فإن كان التفاخر امرًا يحبه
الرجال فأنا احب الحكي.
لذلك سأقول ان ما رآه الأمير الذي أُستعبد بعد اذلال مَلكه و أُقحم في
ساحة يصارع الوحوش و الرجال محررا من قيد الاغلال مقيدًا بغل البقاء, ما
رآه ذلك الشخص حين موته اذ رأى زوجته المقتوله تتمشى في البراح و تفتح له
باب جِنان خضراء, كان ذلك حقيقة امام ناظريه ولم يكن خيال كاتب. و ان
كانت القصة كلها خيال فإن ذلك كان حقيقة في القصة. ⁴
ان السجن لا يقتل فالكثيرون يعيشون ليخرجوا من العناية المركزة ليعيشوا
على اجهزة ضبط الكذا و ادوية ضبط الكذا كذا, ولكن الشوق الى البراح هو
الذي يدفع التوّاقين الى نزع الانابيب و فصل الاجهزة والإفاقة من المخدر
ورفض النوم و الاكل, لعل ذلك منفذهم الأخير نحو براح سمعوا عنه وتمنوه
في دنيا كئيبة ان كانت حرة الأغلال فهي مقيدة بأغلال البقاء.
ان الشوق الى البراح مميت و ان الموت هو نافذتنا الى كل براح نرجوه ان
يخرج بنا من اغلال الدنيا. وتلك ليست كآبة بل انني اؤكد ان البراح في
الدنيا موجود و متحقق برغم كونه صعب المنال كحضن حبيبة محجبة ومتحجبة
ومحجوبة بألف حجاب, ولكن انا هنا اتحدث عن البراح الذي نرجوه خارج هذه
الدنيا. البراح الذي أشعر براحه ادم بالضيق عندما نظر الى الارض بينما
ينزل اليها و قال : "انها صغيرة جدا وضيقة جدًا و كئيبة جدا" قالها بينما
انقبضت خفقة في قلبه و انطفأت لمعة في عينه, لنتوارث قبضة القلب تلك
وعبوس العين ذاك كلما نظرنا الى ضيق بعد براح. نستدعيهما في العناية
المركزة و المستشفيات بعد الحدائق و المتنزهات يرتسمان فينا بتقاصيلهما
تماما كما ارتسمتا على قلب وعين آدم حين نظر الى ارض الشقاء بعد سماء
الآمال و الهناء. **
ستزداد كلماتي وقعًا وألمًا وقيمة اذا لم تخرج من العناية المركزة. ستصبح
خالدة في حياتي تلك اللحظات التي كتبت هذا فيها. ربما سأستفيد بها ماديًا
او اوقف ريعها لصالح مرضى الفشل الكلوي ومرضى البراح, حين انشرها تحت
عنوان "موت سرير رقم 8 " ليحاكي أصالة كاتب لم يقبل التهجير من الارض على
ضيقها, فهُجّر من الدنيا عنوة بالموت الى البراح.***
لكني ازهد هذه المرة في القيمة و اجزع من الالم و أنذر الدعم المادي و
المعنوي لمرضى الفشل الكلوي و مرضى البراح اذ اكتب الآن عن حياة سرير
رقم 8 وتمسكه بالحياة و توقه نحو البراح ووعودنا المتبادلة عن براح
سنتشاركه بعد الخروج من اغلال الاجهزة الحيوية وسجن العناية المركزة و
معسكر المستشفى.
------
1- اسعد طه
* تميم البرغوثي شاعر ابن مريد البرغوثي الشاعر ايضًا و الأديبة رضوى عاشور.
2- تقرير مراكيب السيدة راء - تقارير السيدة راء - مجموعة قصصية -رضوى عاشور
3- وفاة موظف - قصة قصيرة - انطون تشيخوف
4- اسطورة وفيلم سينيمائي The gladiator
** أمي اسمها آمال و خالتي اسمها هناء.
***الكاتب غسان كنفاني و الكتاب موت سرير رقم 12
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق