الجمعة، 30 نوفمبر 2012

الرباط الرابع

الرباط الرابع
-
كان "اشُتمُر" "جندي المئذنة" وكانت مهمته الاقامة في المئذنة يرقب الوضع
لمشاهدة الطريق الغير مستخدم بالمرة اتتظارا لوصول قافلة تجارية يعلم اهل
المدينة بقدومها او كتيبة جيش لن تصل أبدًا طالما ان امام العدو ثلاث طرق
للمدينة ممهدة وتسهل على خيوله الوصول للمدينة التي تناسى اهلها شخص اسمه
اشتمر كان دوما محل اهتمام اصدقاؤه وخلانه. و الحقيقة انه رغم قسوة
انعزاله فوق مئذنة عالية بل شاهقة للارتفاع الا ان ذلك كان بإختياره
المحض فهو الذي رفض اجراء قرعة مع زملاءه في الرباط لبيان من سيختاره
القدر, من سيوقعه حظه العثر ليكون المنفي المعزول.
ولما كان احدهم لا يعلم ماهو التأمل وكيفيته فلم يقدم احد على هذه
المهمة. وكيف يعلمون وكل منهم لا يدرك ان بإمكانه التأمل بالسنوات فيما
آل به من اوامر قدرية وظروف قهرية لسكنى هذا الرباط المنعزل النائي عن
المدينة و عن اهتمام اميرها الذي لا يترك مناسبة الا ويطمئن رفقة قادته
وخاصة جنده على تحصينات اربطة المدينة الثلاث و ابوابها الاربع بأبراجها
الشاهقة, وكأن ذلك الزباط الرابع غير موجود الا في حضرة هؤلاء الرجال!
لم يفكر اي منهم في ايثار زملاءه المرابطين على نفسه و التقدم دون قرعة
مختارا العزلة طواعية, ولم قد يفعل احدهم مادام لا يوجد في هذه السكنى
سوى القسوة و الوحدة, او الوحدة وقسوتها؟ . لكن اشتمر فعلها.

كان ذلك قبل سنوات من ذلك اليوم الذي ادرك فيه اشتمر انه وحيدًا شريدًا
منعزلا في مراقبة طريق لا يبدو في افق زمنه أي فارس او راجل.
ذلك ان رواج هذا الطريق او احتمال رواجه وكذا بث الحياة في الرباط مرتبط
بتلك الحالة المتذبذبة التي تحكم علاقة حاكم مدينة الناس بحاكم مدينة
الآخرين القابعة بعيدا عن المدينة من جهة الرباط الرابع - هكذا كانت
الحال عند بداية خدمته في الرباط-.
ولما كانت علاقة حاكم مدينة الناس مع حاكم مدينة الآخرين تتوتر, كان يصب
اهتماما كبيرا على الرباط الرابع خاصة و انه يمثل منارة رصد هذه الجبهة
المضطربة فكانت الأموال والجند تتوافد على الرباط.
ولم يصبح اشتمر في هذه الحال بين غروب شمس و شروقها و انما كان السبب
تراجع اهتمام فخر الدين الجوكندار أمير الناس بالرباط الرابع مع تحسن
علاقته بحاكم مدينة الآخرين خاصة بعد وفاة الأمير السابق. وزاد الامر
وجود توترات على الجهة الاخرى من المدينة ما جعل الاموال و الاهتمام
ينصرفان عن الرباط الرابع لصالح باقي الاربطة, فبدأ عدد الجنود فيه يقل
رويدا رويدا حتى اصبح اشتمر فيه وحيدا منتظرا ذلك الشخص المكلف بالتواصل
معه بين اسبوع و اخر. وهو الذي كان له احتراما خاصا و حضورا في مجلس ابيه
بينما يتحلق حوله او يجاوره كبار العلماء و الفقهاء وعلية القوم. الا انه
ورغم ذلك كان قد بدأ يشعر بنفور لم يعتده من رفاقه وذويه بل بدأ يشعر
بغربة وهو بينهم, حتى بدت له فرصة التطوع في هذا الرباط المنعزل بمثابة
الملاذ, فهو لن يرى فيه ابيه ولن يلحظ ذلك الشعور بالغربة في حضرته, بل
وقد يتولد شوق اليه لدى اهله و اصدقاءه حتى اذا عاد اليهم في زيارة
احتفوا به و اصروا على ملازمته و اظهروا له الاهتمام الذي بات وقتها على
غير عادتهم, مؤجلا بذلك الزواج كحل لمشكلته لطالما الحت به عليه امه التي
لم يفارقه حنانها و شعوره بالوطن في حضنها, فآثر بذلك رباط الجهاد على
رباط الزواج.
ورغم ان نور الدين كان يسعى لإيصال اخبار المدينة قدر الامكان لأشتمر كي
يؤنس وحشته, الا انه اجتهد في اخفاء نبأ ترفي ذلك الجندي الذي كان رفيقه
في الرباط اذ اصبح قائد فرقة ومن خواص الأمير, حتى انه تغلب على رغبته في
ذكر ذلك الخبر بإختلاق الاخبار و الاحاديث عن صراعات تدور داخل وخارج
المدينة ويجملها ببعث الزهو فيه حين يخبره -زورًا- ثناء اهل المدينة عليه
و على اصراره على المرابطة دفاعا عن المدينة.  بالإضافة الى ذلك كان نور
الدين يجلب له بعض الكتب و اللفائف آملا من نور الدين ان يصل صديقه الى
مرحلة من العلم تؤهله لنيل مكانه مرموقة عند عودته التي امل نور الدين ان
تكون قريبة.

لم يدر اشتمر كيف ومتى تولد لديه عداء تجاه اهل المدينة, اذ لم يلفظوه بل
هو الذي شعر بينهم بالغربة, هو الذي اختار التطوع للعزلة في رباط, عزلة
رأى فيها فرصة لاعادة تقييم ومن ثم تقديم نفسه لمدينة الناس.
سرعان ما تحول هذا العداء الى رغبة في الانتقام من اهل المدينة من
تجاهلهم (على الرغم من كونه احق من يُنتقم منه!).
في هذه الصحراء القاحلة المديدة لا يمكن للسيف ان يكون اداة انتقام من
مدينة بأكملها بل إن سلاح اشتمر الأقوى للانتقام هو وظيفته. وهي اشعال
النيران و ايصال اشارات الى البرج الآخر على مدخل -او قل مخرج- المدينة,
ففكر كيف ينتقم بتلك الوسيلة البسيطة, فهذه الأداه-النار اقصد- رغم
بساطتها الا انها تبلغ مبلغ عظيم من الاهمية خاصة مع وجود اشارات معينة
لكل خبر (قدوم قافلة = اشعال نار ذات دخان اخضر - او هجوم على المدينة =
اشعال نار ذات دخان احمر ) وهكذا. بل و اخطر من ذلك فإن وسيلته الاكثر
ضررا للانتقام هي التقاعس عن الابلاغ بحدوث هجوم, هذا ان حدث اصلا!. الا
انه سرعان ما تذكر ان من تلك المدينة قد يخرج يوما من يذكره خاصة و انه
كان قد بدأ يأخذ الامر بشكل تحدِ لناس المدينة فهو لن يعود اليهم مالم
يرسلوا في طلبه او في السؤال عنه.

كانت تراوده رؤيا بينما ينظر في افق الصحراء وهي اشبه بحلم يقطة فيه ان
احدى حسناوات مدينة الناس رفضت كل من تقدم للزواج منها و أبت الا الزواج
من ذلك المرابط الجسوا حامي المدينة الذي اعتزل الناس وضحى بالغال و
النفيس من اجل حمايتهم. ومع تكرار الحلم فإنه لم يفكر يوما في كيف ستسمع
به هذه الحسناء وهو قابع في رباط منقطعة اخباره عن الناس الا من نور
الدين. وكيف يفكر في ذلك وهو الذي حسم الامر مع امه اكثر من مره في رغبته
في عدم الزواج! فحدث نفسه انه حتى لو تحقق الحلم فلن يتزوجها.

كان اشتمر قد بدأ في التعمق في قراءة ما يجلبه نور الدين من كتب ورسائل
لكبار العلماء حتى تحصل منها - وهي من اختيار نور- على معارف واسعه في
المنطق ورالفلسفة و الفقه و التوحيد . الا ان تلك المعارف الراقية لم ترق
بعقله من التفكير في الانتقام من مدينة الناس و ناسها, خاصةً و ان نور
الدين نفسه بات متثاقلا في الزيارة كلما اشتدت به رغبة الانتقام, حتى
اصبحت زياراته تقارب الغير شهر بعدما كانت كل اسبوعين من بعد زيارة
اسبوعية اعتادها بعد سحب اخر الجنده و تركه في الرباط الرابع وحيدا.
فكر في حل بسيط يكون اقل من الانتقام , ربما تكفي اشارة عادية للجندي
القابع في احد ابراج باب المدينة من جهة الرباط فيرسل من يستفسر عنها,
مثلا, وربما تصيب اشتمر لحظة وهن فيطلب من الرسول اعفاءه من البقاء في
الرباط. لكن احدًا لم يهتم بالإشارة و لم تكن مجدية فبات مظهره من شعر
وذقن واهتراء لباسه كالمجاذيب المنقطعين للدروشة اقرب لحالة نفسه, حتى
انه اعتقد ان احدا غير نور الدين اذا رآه فسيظن على الفور انه احد
المجاذيب.
زاد اشتمر من اشعال النار, و كان يجلس مجاورا لها ساعات ممتلئا بالحقد
على الناس آملا في اي تحرك يحدث منه يدل على اهتمامهم او على الاقل
يطمئنه ان ثمة من ينتظر على الجانب الاخر من الصحراء او ربما يستشعرون
الخطر اذ ان النار العاليه اشارة خطر محدق بالمدينة فيشحذوا الهمم لذلك.
لكن ذلك لم يحدث فلم يزده الا حقد على حقد.
لم يدرك اشتمر حينها ان ذلك الجانب من المدينة تخرب و تهدم و هجره الناس,
الا انه بدأ يسأل نفسه كيف ان احد المؤذنين قد صعد للآذان في مئذنة
الجامع الكبير الشاهقة التي تستخدم ايضا للاغراض العسكريه ولم ير هذه
الاشاره؟ هل الغي الاذان؟ هل كفر اهل المدينة وحادوا عن دين الله؟ و
العدو, هل نسيه حتى  العدو؟ طيلة هذه السنوات لم يفكر العدو في الهجوم؟!
كيف وهي الجبهة المضطربة دومًا؟!
تلك الاسئلة و الاستنكار بها لم يمنعه من الاصرار على معرفة ماذا حدث
للناس ولمدينة الناس , وسبيله الوحيد هو النيران اذ انه لا يستطيع السير
في الصحراء خاصة بعد فرار فرسه جوعا (هكذا كان يقنع نفسه كي ينسى انه
اطلق الفرس كي يقطع اي فرصة للاتصال بالمدينة من ناحيته حتى لا يخسر
التحدي). .. فأخذ يحرق كل ما بدا امامه قابلا للحرق وزادت حدنه وتوتره في
السعي لإزكاء النيران مع تعالي الهواجس في رأسه.
ومع تصاعد السنة اللهب يوما بعد يوم فكر اشتمر ان ينزل للرباط عله يجد
فرسه قد عاد فيمتطيه عائدا لمدينة الناس. لكن هواجسه باتت اشد ازعاجا: هل
كل ذلك حدث حقا؟! كيف ومتى حدث؟! هل كان الفرس هنا؟ هل جئت انا الى هنا
اصلا؟ هل ثمة نور الدين؟ هل ثمة نور للدين اصلا؟!
تصاعدت الأسئله و ازعاجها مع بحثه عن سلم المئذتة لتصل لشد ضوضاءها حين
ادرك اختفاء السلم! فهو يرى المئذنه و الصحراء و النار ولا يرى السلم.

توقف للحظات اوقف فيها تفكيره بل اوقفت الصدمة عقله.. حتى اذا هدأ قرر
الاجابة عن الاسئلة كلها جملة واحدة, قرر ان يتبين حقيقة وجوده بالطريقة
الصعبة " ان كنت حيًا فسوف اموت , و ان كنت عدمًا فالعدم غير معدوم"
قالها وهو يفكر في القاء نفسه من مئذنة الرباط, انه ليس الانتحار بل هو
فرصته الاخيرة لاثبات وجوده, علّه يدرك وجوده في تلك اللحظة التي يرئ
فيها ملك الموت, او قد يشعر بالحياة في تلك اللحظات التي سيقضيها متألمًا
قبل الموت على اثر السقوط...

وقفز.
فإذا به لا يشعر بالسقوط, لا يشعر بالألم, لا يشعر بأي شيء! بل تذكر انه
لم يشعر في رحلته تلك بأي شيء , فالنار العالية لم تؤذه بل لم يشعر
امامها بالدفء او الحرارة, لم يخفق قلبه اثناء التفكير في تلك الحسناء,
لم يشعر بجمالها حين تخيلها حسناء, انما ادرك فجأة وبنظرة لا يدري موقع
ناظرها, ادرك ان المئذنة مغطاه بالرمال حتى شرفتها, وبنظرة الى نفسه ادرك
انه لم يكن ليتألم او ليشعر او ليسقط لم يكن ليموت, فكيف لأحد ان يموت
مرتين؟!

30 نوفمبر 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق