كتابتك الجيدة هي ما قد كتبته بالفعل. كل أفكارك الجميلة النيرة ليست بمكانة حرف مما كتبت.
انا شخص لا يحب الكتابة ولا يطيقها. بدأ الأمر من رفضي الاقتناع بكلام معلم اللغة الذي اصر أن حسن الخط ليس سببًا يدعو للفخر كما أن سوء خطي ليست له اي علاقة بعدم قدرتي على التعبير. و الحقيقة أن سوء حظي هو ما قادني للإعتماد على سوء حظي كسبب للنفور من الكتابة التي لم أحسب يومًا أن تصل حاجتي اليها كما وصلت اليوم.
سألتها: متى أول مرة تحرش بك أحدهم؟ وكي أشجعها على الاجابة حكيت لها اول موقف تم التحرش بي و مضيت أورد ألفاظ المبالغة في التعجب " تخيلي أن المجتمع بأكمله يتحرش بطالب في المرحلة الثانوية لحسبانهم أحلامه ثانوية"
لم أشأ أن أورد العديد من مواقف تعرضي للتحرش لكنني تمنيت في هذه اللحظة أن اكون محملًا بذكرى تحرش جنسي حتى نكون متساوين في اعترافاتنا، لكنها اغلقت الحديث بالقول " هذا أمر لا تحكيه البنت لأبيها"
فكرة أن كل ما عشته و دار بي و درت به و درته لم ينتهي حتى الآن هي فكرة مفزعة أحاول أن أهدأها لتكون " لم ينتهي بعد"
حتى حصلت على هذه السترات المكوية و المغلفة بأكياس رقيقة تصبغها بمظهر السترات الجديدة، حتى هذا اليوم كنت من مدمني التسويف، أن ليس السيء لم يأت بعد و أن الكتابة لم تحبني بعد و أن نصيحة معلمي لم تثبت بعد و أن الخير، لم يأتِ بعد. الى أن اسرعت بدون تردد لشراء طبق حلوى لها.
اعترف أن ارتفاع الاسعار هو السبب الرئيسي في قراري اذ خشيت أن امر غدٌا برغبتها في تذوق حلوى قد اكون حينها لست قادرًا على ثمنها و أن كانت حلوى ابسط ما يكن.
لا شيء اقل او ابسط من أن يذكر في يوميات. في اليوميات اكتب كل شيء حتى ما تعتقد انه غير مهم، اذ أن اليوميات اصلا ليست مهمة سوى لأنها تحوي حوادثك غير المهمة.
دوما ما امر بفتنة شديدة مزمنة "الكتابة ام الواقع" و على الرغم من عدم معرفتي بالكتابة فقد "اخترت" ان اعيش الواقع دون أن اكتب عنه. ولا اعلم أي اختيار هذا الغير مبني على خيار اخر غير ما اجبرت على اختياره.
ماذا؟ " أجبرت" و " اختياره " في جملة واحدة؟! يبدو انني أحاول أن اجعل يومياتي اهم من أن تحوي تفاصيل حياتي الصغيرة.
تفضيلي الاجباري الواقع حرمني من تسجيل العديد من القصص التي مررت بها بل و منعني من تسجيل ما سمعته من قصص و حصرني في اطار التاريخ الشفوي فصرت أتحدث بسرعة خمس الى ست كلمات في الثانية كي ألحق بآذان المستمع و اسجل على شريط ذاكرته تلك القصة التي سمعتها صغيرًا او تلك التي كنت قد قرأتها لتوي.
وتلك التي حدثت لي و مررت بها لم تكن سوى ترديد لما كتب منذ مئات السنوات و قد قرأته او نبهني احد المستمعين لأنه قرأ امرًا مماثلًا. او ذلك الصديق المهذب الذي همس في أذني: " اعجبني مما مررت به امس في المترو لكن هناك بعض تفاصيل فاتتك" و عندما اصريت على اخفات ابتسامته المهذبة السخيفة قال " في الرواية كان الكاتب أجرأ منك فقد تحدث عن بذل احدى الغواني الفقيرات نفسها لأحد الفقراء لأنه كان اعدم من ام يتزوج او يؤجر بغي. لكن صياغتك كانت ركيكة بإستبدال القصة بطفلة تبيع المناديل في المترو و تعطي نقود لاحدى الامهات اللاتي يتسولن في المترو" و أضاف " محاولة محافظة تناسب كونك محافظًا ابله"
بالطبع هذه فرصة جيدة جدا لأن اذكر في يومياتي ما هو اهم من صديقي السخيف كمثلًا أن أورد قائمة قراءاتي في ادب الفقراء في امريكا اللاتينية او مثلا كتابات الازمة الاقتصادية الأمريكية التي وردت فيها تلك القصة عن بذل الفقراء لأنفسهم لصالح الفقراء الآخرين. ولكنها فرصة لأقول لصديقي أني كنت اعلم أن تفاصيل القصة ليست بالمحتوى الجنسي الذي حكاه لي من وحي آماله بأن منظمة الصالون قد تغدق عليه بنفسها كهدية من ضمن هدايا الصالونات الثقافية حينئذ. هي فرصة أيضًا لأن أورد تصوري الشخصي أن الادب ماهو الا وسيلة لحفظ احداث البشر و تصوراتهم عن العالم من اجل تسجيلها لا اكثر بغض النظر عن الاستفادة اللاحقة من هذا التسجيل. و هي فرصة كذلك لأن اقول بأن كل هذه القصص على ارفف المكتبات قد حدثت بالفعل و ستتكرر سواء قرأتها ام لم تقرأها. اذ ان بائعة المناديل لم يسبق لها أن قرأت " اذا اردت المساعدة فإلجأ للفقراء فهم اقدر الناس على تقديم المساعدة"
الانتظار دائما ما يكون فرصة جيدة و احيانا يكون فرصة للندم كي يتوالى على الأنفس المدمنة للتسويف، أمثالي.
استغرقني الأمر عمرًا كي ابدأ بالكتابة، اغرقني الندم على ما فات من دون تدوين ولا يبدو اني سأتخلص من الندم بل يبدو أنه موضوع مشوق للكتابة.
يبدو أن كتابتي هذه ستكون محلًا لينسب لي قارئها خطأ بعض المقولات التي اقتبستها ولم أورد ذكر اصحابها.
كما يبدو أيضًا أن تفضيلي للواقع على حساب الكتابة افضى بي الى رجل خريفي خرف يحدق بالناس في المواصلات ولا يدرك أن الناس يحدقون به لأنه يرتدي سترة فريقه المفضل. كل يوم ينظر إليها على انها ما زالت سترة فريق المجد. ينظر اليها بتطلع. لم تتغير العلاقة بينهما لكن باقي مدخلات معادلة الحياة تغيرت؛ السترة اصبحت بالية، النادي غير التصميم مرارا وتكرارا حتى انه يفكر في اعادة التصميم القديم بمناسبة مرور خمس وعشرون عاما على البطولة، العقل الذي كان مستغرقًا في الواقع صار تواقًا للخيال. كل شيء تقريبا تغير ما عدا تلك النظرة المتطلعة نحو سترتي كلما هممت بتناولها. وهذا هو السبب في شعوري أن اي منا لم يبلى.
العلاقات بالاشياء تتسم بطول يد الانسان عليها وبطشه بها. يمكنه أن يصبغها بالاستقرار اللازم لشعوره بالراحة، أن يضيف لها احداث و ذكريات ، بل أن يجعلها تتحدث بما يشاء. وتلك فتنة كبرى قد وقعت فيها حين مضيت في حياتي استغني عن شغف محبة البشر بشغف حبي للأشياء التي أشكل علاقاتي بها كما أشاء.
اضاع مني هجري للكتابة فرصا كثيرة للاستثمار. فالكتاب و القراء و الناشرون يعشقون الكتابة عن المعاناة و الفقر و الفقر و المعاناة. يحبها القارئ فيعشقها الناشر و يستغني بها الكاتب عن عوز الفقر والمعاناة. على مدار عشرين عاما من الفقر كان بين يدي كنز لم أفطن له. كنز انتشل الكثيرين من الفقر، كنز كان ليجنبها تحرش احدهم و يمكنني من غلب تحرش المجتمع بأحلامي.
هل كان اختياري لأن ازور المكوجي اليوم هو السبب وراء كل هذا الفيض من الاعتراف و النحيب على حياتي؟ كان بإمكاني أن اقول فقط: "بعدين" حين تذكرت أنه كان علي استعادة السترات منذ اسبوع.
الذاكرة غريبة جدا. و كذا الحياة أغرب. لو لم اكن فكرت أن اذهب الى المكوجي كي يعيد بعض من هيبة ستراتي البالية ويغلفها من جديد لما تذكرت و من ثم قررت أن "لا بعدين بعد اليوم" و أن اذهب اليه فورًا لاستعادتهم. و لم اكن كذلك لأقرر بمنتهى الحسم أن اتوقف عن التسويف و ابدأ بالكتابة التي ذكرتني بالسترة الرياضية البالية التي ستصبح موضة هذا الشتاء بعد أن قرر النادي اعادتها الى الاسواق من جديد. لكانت فكرة شديدة الحكمة أن اجدد تلك السترة بدلا من السترات الأخرى. كانت الفكرة كفيلة بأن تُعجل بطبق الحلوى بل و أن توفر اللازم لأن يكون طبقان. ياه! طبقي حلوى في اسبوعين متتاليتين. كم كان سيعجبها ذلك!
الجمعة، 16 ديسمبر 2016
يوميات الخريف المؤجلة
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)